سورة هود - تفسير تفسير الزمخشري

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (هود)


        


{وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39)}
{وَيَصْنَعُ الفلك} حكاية حال ماضية {سَخِرُواْ مِنْهُ} ومن عمله السفينة، وكان يعملها في برية بهماء في أبعد موضع من الماء، وفي وقت عزَّ الماء فيه عزة شديدة، فكانوا يتضاحكون ويقولون له: يا نوح، صرت نجاراً بعد ما كنت نبياً {فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ} يعني في المستقبل {كَمَا تَسْخَرُونَ} منا الساعة، أي: نسخر منكم سخرية مثل سخريتكم إذا وقع عليكم الغرق في الدنيا والحرق في الآخرة. وقيل: إن تستجهلونا فيما نصنع فإنا نستجهلكم فيما أنتم عليه من الكفر والتعرّض لسخط الله وعذابه، فأنتم أولى بالاستجهال منا. أو إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم في استجهالكم، لأنكم لا تستجهلون إلا عن جهل بحقيقة الأمر، وبناء على ظاهر الحال كما هو عادة الجهلة في البعد عن الحقائق.
وروي أنّ نوحاً عليه السلام اتخذ السفينة في سنتين، وكان طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسون ذراعاً، وطولها في السماء ثلاثون ذراعاً، وكانت من خشب الساج وجعل لها ثلاثة بطون، فحمل في البطن الأسفل: الوحوش والسباع والهوام، وفي البطن الأوسط: الدواب والأنعام، وركب هو ومن معه في البطن الأعلى مع ما يحتاج إليه من الزاد، وحمل معه جسد آدم عليه السلام وجعله معترضاً بين الرجال والنساء، وعن الحسن: كان طولها ألفاً ومائتي ذراع، وعرضها ستمائة. وقيل: إنّ الحواريين قالوا لعيسى عليه السلام: لو بعثت لنا رجلاً شهد السفينة يحدّثنا عنها، فانطلق بهم حتى انتهى إلى كثيب من تراب، فأخذ كفا من ذلك التراب فقال: أتدرون من هذا؟ قالوا الله ورسوله أعلم. قال: هذا كعب بن حام. قال: فضرب الكثيب بعصاه فقال: قم بإذن الله، فإذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه وقد شاب فقال له عيسى عليه السلام: هكذا أهلكت؟ قال لا، مت وأنا شاب، ولكنني ظننت أنها الساعة فمن ثمت شبت. قال: حدثنا عن سفينة نوح. قال: كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع، وعرضها ستمائة ذراع، وكانت ثلاث طبقات: طبقة للدواب والوحوش، وطبقة للإنس، وطبقة للطير. ثم قال: له عد بإذن الله كما كنت، فعاد تراباً {مَن يَأْتِيهِ} في محل النصب بتعلمون، أي: فسوف تعلمون الذي يأتيه عذاب يخزيه، ويعني به إياهم، ويريد بالعذاب: عذاب الدنيا وهو الغرق {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ} حلول الدين والحق اللازم الذي لا انفكاك له عنه {عَذَابٌ مُّقِيمٌ} وهو عذاب الآخرة.


{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آَمَنَ وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)}
{حتى} هي التي يبتدأ بعدها الكلام، دخلت على الجملة من الشرط والجزاء.
فإن قلت: وقعت غاية لماذا؟ قلت: لقوله ويصنع الفلك، أي: وكان يصنعها إلى أن جاء وقت الموعد، فإن قلت: فإذا اتصلت (حتى) بيصنع فما تصنع بما بينهما من الكلام؟ قلت: هو حال من يصنع، كأنه قال: يصنعها والحال أنه كلما مرّ عليه ملأ من قومه سخروا منه.
فإن قلت: فما جواب كلما؟ قلت: أنت بين أمرين: إما أن تجعل {سخروا} جواباً و {قال} استئنافاً، على تقدير سؤال سائل، أو تجعل {سخروا} بدلاً من {مرّ} أو صفة {لملأ} و {قال} جواباً. {وَأَهْلَكَ} عطف على اثنين، وكذلك {وَمَنْ ءامَنَ} يعني: واحمل أهلك والمؤمنين من غيرهم. واستثنى من أهله من سبق عليه القول أنه من أهل النار، وما سبق عليه القول بذلك إلا للعلم بأنه يختار الكفر، لا لتقديره عليه وإرادته به- تعالى الله عن ذلك- قال الضحاك: أراد ابنه وامرأته {إِلاَّ قَلِيلٌ} روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كانوا ثمانية: نوح وأهله، وبنوه الثلاثة، ونساؤهم» وعن محمد بن إسحاق: كانوا عشرة: خمسة رجال وخمس نسوة.
وقيل كانوا اثنين وسبعين رجلاً وامرأة، وأولاد نوح: سام وحام ويافث، ونساؤهم فالجميع ثمانية وسبعون: نصفهم رجال ونصفهم نساء. ويجوز أن يكون كلاماً واحداً وكلامين؛ فالكلام الواحد: أن يتصل {بِسْمِ اللَّهِ} ب (اركبوا) حالا من الواو، بمعنى: اركبوا فيها مسمين الله أو قائلين بسم الله وقت إجرائها ووقت إرسائها، إما لأن المجرى والمرسى للوقت، وإما لأنهما مصدران كالإجراء والإرساء، حذف منهما الوقت المضاف، كقولهم خفوق النجم، ومقدم الحاج. ويجوز أن يراد مكاناً الإجراء والإرساء، وانتصابهما بما في {بِسْمِ اللَّهِ} من معنى الفعل، أو بما فيه من إرادة القول. والكلامان: أن يكون {بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} جملة من مبتدأ وخبر مقتضبه، أي بسم الله إجراؤها وإرساؤها. يروى أنه كان إذا أراد أن تجري قال: بسم الله فجرت، وإذا أراد أن ترسو قال: بسم الله فرست، ويجوز أن يقحم الاسم، كقوله:
ثُمَّ اسْمُ السَّلاَمِ عَلَيْكُمَا ***
ويراد: بالله إجراؤها وإرساؤها، أي بقدرته وأمره. وقرئ: {مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} بفتح الميم، من جرى ورسى، إما مصدرين أو وقتين أو مكانين.
وقرأ مجاهد {مجريها ومرسيها} بلفظ اسم الفاعل، مجروري المحل، صفتين لله.
فإن قلت: ما معنى قولك: جملة مقتضبة؟ قلت: معناه أن نوحاً عليه السلام أمرهم بالركوب، ثم أخبرهم بأن مجراها ومرساها بذكر اسم الله أو بأمره وقدرته. ويحتمل أن تكون غير مقتضيه بأن تكون في موضع الحال كقوله:
وَجَاؤُنَا بِهِمْ سَكَرٌ عَلَيَنا ***
فلا تكون كلاماً برأسه، ولكن فضلة من فضلات الكلام الأوّل، وانتصاب هذه الحال عن ضمير الفلك، كأنه قيل: اركبوا فيها مجراة ومرساة بسم الله بمعنى التقدير، كقوله تعالى: {فادخلوها خالدين} [الزمر: 73]. {إِنَّ رَبّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} لولا مغفرته لذنوبكم ورحمته إياكم لما نجاكم.


{وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)}
فإن قلت: بم اتصل قوله: {وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ}؟ قلت: بمحذوف دل عليه {اركبوا فِيهَا بِسْمِ الله} [هود: 41] كأنه قيل: فركبوا فيها يقولون: بسم الله، {وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ} أي تجري وهم فيها {فِى مَوْجٍ كالجبال} يريد موج الطوفان، شبه كل موجة منه بالجبل في تراكمها وارتفاعها.
فإن قلت: الموج: ما يرتفع فوق الماء عند اضطرابه وزخيره وكان الماء قد التقى وطبق ما بين السماء والأرض، وكانت الفلك تجري في جوف الماء كما تسبح السمكة، فما معنى جريها في الموج؟ قلت: كان ذلك قبل التطبيق، وقبل أن يغمر الطوفان الجبال. ألا ترى إلى قول ابنه: سآوى إلى جبل يعصمني من الماء. قيل: كان اسم ابنه: كنعان. وقيل: يام.
وقرأ علي رضي الله عنه: ابنها، والضمير لامرأته.
وقرأ محمد بن علي وعروة بن الزبير: ابنه، بفتح الهاء، يريدان ابنها، فاكتفيا بالفتحة عن الألف، وبه ينصر مذهب الحسن. قال قتادة: سألته فقال: والله ما كان ابنه، فقلت: إن الله حكى عنه إن ابني من أهلي، وأنت تقول: لم يكن ابنه، وأهل الكتاب لا يختلفون في أنه كان ابنه، فقال: ومن يأخذ دينه من أهل الكتاب، واستدل بقوله: {مّنْ أَهْلِى} [هود: 45] ولم يقل: مني، ولنسبته إلى أمّه وجهان، أحدهما: أن يكون ربيباً له، كعمر بن أبي سلمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يكون لغير رشدة، وهذه غضاضة عصمت منها الأنبياء عليهم السلام.
وقرأ السدي {ونادى نوح ابناه} على الندبة والترثي. أي: قال: يا ابناه. والمعزل: مفعل، من عزله عنه إذا نحاه وأبعده، يعني وكان في مكان عزل فيه نفسه عن أبيه وعن مركب المؤمنين. وقيل: كان في معزل عن دين أبيه {يابنى} قرئ بكسر الياء اقتصاراً عليه من ياء الإضافة، وبالفتح اقتصاراً عليه من الألف المبدلة من ياء الإضافة في قولك {يا بنيا} أو سقطت الياء والألف لالتقاء الساكنين؛ لأنّ الراء بعدهما ساكنة {إِلاَّ مَن رَّحِمَ} إلا الراحم وهو الله تعالى، أو لا عاصم اليوم من الطوفان إلا من رحم الله أي إلا مكان من رحم الله من المؤمنين، وكان لهم غفوراً رحيماً في قوله: {إِنَّ رَبّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [هود: 41] وذلك أنه لما جعل الجبل عاصماً من الماء قال له: لا يعصمك اليوم معتصم قط من جبل ونحوه سوى معتصم واحد وهو مكان من رحمهم الله ونجاهم يعني السفينة.
وقيل لا عاصم، بمعنى: لاذا عصمة إلا من رحمه الله، كقوله: {مَّاء دَافِقٍ} [الطارق: 6] و{عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} [الحاقة: 21] وقيل: {إلا من رحم} استثناء منقطع، كأنه قيل: ولكن من رحمه الله فهو المعصوم، كقوله: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن} [النساء: 157] وقرئ {إلا من رُحِم} على البناء للمفعول.

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11